كريمان حرك تكتب:ليالى موسيقية ساحرة بأوبرا العاصمة الإدارية مع المايسترو موتى وأوركسترا فيينا وشوبرت
"ليالى موسيقية ساحرة لعشاق الموسيقى الكلاسيكية" هذا هو الوصف المناسب للسهرتين التى تم إقامتهما فى قاعة الموسيقى الكبرى بدار أوبرا العاصمة الإدارية، حيث عاش الجمهور لحظات مع مايسترو بارع وأوركسترا متخصص والأثنان على درجة عالية من الشهرة والتميز.
المايسترو كان "ريكاردو موتى" الذى يزور مصر لأول مرة والأوركسترا فيينا الفلهارمونى الذى سبق له زيارة مصر عام 1950، والسهرتان تم فيهما تقديم برنامجين مختلفين معظم فقراتهما محببة للجماهير وسبق عزفها من خلال أوركسترا القاهرة السيمفونى الأوركسترا جاء إلينا بالصدفة، كما صرح بذلك الفنان أحمد أبو زهرة المسئول الفنى فى هذا الصرح والذى أستغل فرصة أن الأوركسترا يقوم بجولة فى بعض دول شرق آسيا، ولكن رفضت الصين دخولهم إلا بعد تطعيمهم بلقاح كورونا الصينى أو الجلوس فى الحجر الصحى ورفضوا، وكانت فرصة أن نستضيفهم خلال هذه الجولة ليساهموا فى إفتتاح هذه القاعة وليتعرف الجمهورالمصرى عليها.
ولأن الصدفة لعبت دورا فى إستضافة الفرقة التى أيضا تعد برنامجا خاصا للجولات تلتزم به ولهذا لن نتساءل لماذا لم يتضمن البرنامج مقطوعة من المؤلفات المصرية بالرغم من أننا نأمل أن هذا سوف يحدث فى المستقبل القريب وأن هذا المكان سوف يكون إستمرارا للنهضة الموسيقية المصرية فى كل من الإبداع والأداء.
• "ريكاردو موتى" وذكاء فى إختيار الفقرات.
أوركسترا "فيينا الفيلهارموني" من الفرق الشهيرة والتى تتميز بحفلها السنوى فى بداية العام والتى تنقله معظم المحطات التليفزيونية والإذاعية ويمثل أعرق الفرق السيمفونية العالمية ذات التقاليد الكلاسيكية الراسخة وقد تأسس عام 1842 ويقع مقره في قاعة "ميوزيك فيراين" بالعاصمة النمساوية فيينا، وبالرغم من شهرته من حيث الريبرتوار الثرى والجودة فى الأداء إلا أن نجم هذا الحفل بالنسبة إلينا كان المايسترو ريكاردو موتى لخبرته الطويلة ورصيده الكبير والمتنوع وقدرته العالية على تفسير فكر المؤلفين والدقة فى تقديم أعمالهم من خلال رؤيته الخاصة والذكاء فى إعداد البرامج طبقا لنوع الجمهور، وهذا كان جليا فى هاتين السهرتين ويعد موتي اليوم من أبرز القادة فى الساحة الموسيقية العالمية وأرتبط كثيراً بأوركسترا فيينا الفيلهارموني، حيث قاده في عدد كبير من جولاته وقاد حفلات رأس السنة لهذا الأوركسترا في فيينا عدة مرات كان آخرها حفل رأس السنة لعام 2021.
وريكاردو موتي ولد فى إيطاليا عام 1941 ويشغل حالياً منصب المدير الموسيقي لكل من أوركسترا شيكاغو السيمفوني، وأوركسترا "جيوفانيل ليويجي تشيروبيني".
كما شغل موتي مناصب القائد الأساسي لأوركسترا "ماجيو ميوزيكالي فرنتينو" في فلورنسا وأوركسترا "فيلهارمونيا" في لندن وأوركسترا فيلاديلفيا وأوبرا "لا سكالا" في ميلانو، ومهرجان "سالزبورج" وغيرها.
وأشتهر عنه نجاح الأوركسترا الذى يتولى إدارته لعقله التنظيمى وحرفيته وثقافته التى تنعكس على أداء العازفين.
ونعود للحفلين التى كانت برامجهما لاتتضمن كونشرتو يعتمد على نجم فى العزف المنفرد بل البطولة كانت للقائد وللأوركسترا ولهذا أقتصرت البرامج على السيمفونيات والإفتتاحيات والفالسات.
• حفل الافتتاح الرسمى .
كان الحفل الأول يوم 20 نوفمبر والذى واقتصر على مؤلفين من النمسا حيث كانت البداية مع فاماديوس موتسارت (1756-1791) حيث عزفوا السيمفونية 35 فى سلم رى كبير كوشيل 385 والمشهورة بأسم "هافنر" نسبة لعائلة تحمل هذا الأسم فى سالزبورج تم تأليف العمل لأحد مناسباتها، ولكن العمل تم تقديمه لأول مرة بالصورة التى نعرفها اليوم فى 23 مارس 1783 فى مسرح "برج فيينا"، كما أنه من الأعمال التى لم تقدم فى مصر منذ فترة طويلة حيث قدمه لنا الراحل المايستروطه ناجى على المسرح الكبيرفى أوبرا الجزيرة عام 1993 وهو عمل كلاسيكى يعد خير تمهيد لبرامج الحفلين ولجمهور هذا الحفل الرسمى.
• عبقرية فرانز شوبرت فى السيمفونية "العظيمة" .
فى النصف الثانى من الحفل قدم لنا الأوركسترا للمؤلف النمساوى فرانز شوبرت (1797-1828) والذى تعد مؤلفاته البطل الثالث فى هذه السهرات، حيث تم عزف عملين من أهم إبداعاته عزف الفريق فى الليلة الاولى السيمفونية رقم 9 مصنف 944 فى سلم دو الكبير والتى يطلق عليها "العظيمة"، وتعد جوهرة ثمينة من إبداعات هذا المؤلف والتى تشتهر بألحانها التعبيرية الخلابة والتى يتضح فيها تأثره ببيتهوفن الذى كان يعشقه شوبرت والسيمفونية، بدأ فى كتابتها عام 1825 لمدة سنتين ثم عرضها على جمعية أصدقاء الموسيقى فى فيينا ورفض العازفون أدائها لطولها ولصعوبتها التقنية ثم أختفت حيث مات شوبرت وبعد عشر سنوات اكتشفها المؤلف الموسيقى روبرت شومان (1810-1856) الذى كان وقتها اكتسب شهرته كصحفى موسيقى أكثر من كونه مؤلفا وأتصل بشقيق شوبرت وأقنعه بتقديمها وعرض الأمر على صديقه المؤلف الألمانى فيلكس مندلسون (1809-1847) والذى أشتهر أيضا بالقيادة وبالفعل عزفت لأول مرة للجمهور بألمانيا فى 21 مارس 1839 بعد وفاة شوبرت بأحد عشر عاما لتصبح من عيون التراث العالمى، وذلك لقيمتها الموسيقية العالية التى أستطاع المايسترو موتى وعازفو الفريق التأكيد عليه وتوضيحه بداية من العزف المنفرد على الكورنو الذى يبدأ به العمل فى الحركة الأولى ويتطور ليصبح اللحن الأساسى الذى يعزفه كل آلات الأوركسترا بدقة برزت تماما فى الأجزاء اللحنية التى تجعل الموسيقى تتحرك بقوة بطريقة درامية، حيث أن الألحان تتصارع بطريقة مركبة تعلو الإيقاعات الأساسية وهنا نتذكر ملامح السوناتا الخاصة على طريقة بيتهوفن وتأتى الحركة الثانية بعزف منفرد للأبوا وبالرغم من أنه لحن ناعم لكن يأتى فى إيقاع المارش، وهنا تكمن الصعوبة التى يتجاوزها العزف وتم أدائها ببراعة ثم تتلقف الآلات الوترية اللحن ويحدث حوار قوى بينها وبين آلات النفخ النحاسى فى مقابل آلات النفخ الخشبيىة، مما يضفى كثير من التنوع اللونى فى موسيقى هذه الحركة والذى أستطاع المايسترو أن يجعله واضحا بما يحمله من جمال كما حدث فى الحركة الثالثة التى بدأت بلحن ذات نغمات منخفضة من الوتريات الغليظة مع آلات النفخ النحاسية والبراعة التى تم تنفيذها كانت فى الجزء الأوسط من هذه الحركة، حيث جاء اللحن الغنائى بانسيابية ثم يتم تكرار اللحن الأول المنخفض فى ختام الحركة وهذا التضاد تم أدائه ببساطة تؤكد قدرة المايسترو على تفسير العمل وفهم العازفين لإشارته وتدريبهم الجيد، حيث كانت من أكثر المقاطع جمالا أما الحركة الأخيرة بدأت بالآلات النحاسية عزفت مايشبه الفينفار وتقودنا إلى بناء محكم فى صيغة السوناتا بشكل بطولى يتمتع بقوة وعنفوان لكل الأوركسترا الذى يعزف لحن نشيط جدا مع ختام عاصف قوى جعل الصالة الذى روادها أستمتعوا بهذه السيمونية الطويلة تشتعل بالتصفيق الحار والهتافات ودخل المايسترو عدة مرات، وبعد أن قدم التحية للعازفين الصولو قدم تحية للجمهور وكانت فالس "الأمبراطور" لشتراوس الإبن (1825-1899) وهذا ذكاء منه حيث أن الفالسات من الأعمال التى أشتهر بها هذا الأوركسترا الذى ينتسب لفيينا التى شهدت أهم إبداعات الفالسات وتشتهر بها خاصة فى حفلات بداية العام الجديد الشهيرة.
الطريف فى هذا الحفل أداء المايسترو الهادىء والدقيق والذى تصادف أن كنت من الجالسين قبالته مما أتاح لى متابعة إشاراته وقفز الى ذاكرتى الحفل الذى شاهدته بقيادته فى بروكسل عام 2006 وسجلته فى الجزء الثالث من كتابى "الفن الجميل" وهذا فرض المقارنة حيث كان فى حينها متحمسا فى القيادة بالأسلوب الإيطالى النشط ولكن هنا ظهرت الحكمة فى الأداءوجاءت إشارته وعصا القيادة تتحرك بهدوء وعمق وخبرة السنين الطويلة.
والزيارة تضمنت حفل فى اليوم التالى21 نوفمبر تضمن برنامجه مقطوعات متنوعة حيث بدأ بالمؤلف شوبرت حيث عزفوا السيمفونية الرابعة المعروفة بالمأساوية والتى كتبها عام1816 ولم تعزف إلا عام 1849 بعد وفاة شوبرت بعشرين عاما وهذا الأسم أطلقه عليها المؤلف ولم يتم التوصل للسبب كما تم عزف أيضا مقطوعة خفيفة من من باليه "قبلة الجنية" للمؤلف الروسى إيجور سترافنسكى ( 1882-1971) الذى يعد من عظماء النصف الأول من القرن العشرين أما الختام عاد فيه المايسترو للعصر الرومانسى حيث قدم السيمفونية رقم 4 مصنف 90 فى سلم لا الكبير ويطلق عليها "الإيطالية " للمؤلف فيليكس مندلسون حيث استلهم ألحانها خلال زيارته لإيطاليا، وقد قاد مندلسون عزفها لأول مرة سنة 1833 ولكنه لم يسمح بإعادة عزفها مرة أخرى طوال حياته رغبة منه في إعادة كتاباتها، ولكنه مات قبل أن يفعل.
وفى تقليد تقديم مقطوعة تحية للجماهير التى لم يتوقف عن التصفيق والهتاف يطل علينا مرة اخرى ذكاء المايسترو الذى تجلى فى إختياره لأحد أعمال فيردى الذى أبدع أوبرا "عايدة" بتكليف من مصر وعزف افتتاحية أوبرا "قوة القدر" ومن المعروف أن "موتى" قاد معظم أعمال إبن بلده فيردى ومتميز بها.
فرانز شوبرت
• كلمة أخيرة .
السهرات ممتعة وجمال المبانى يستحق الإشادة ولكن الفخر يجب ان يكون لنا لأن لدينا نهضة موسيقية تسبق شرق آسيا الذى كان الأوركسترا فى جولة بها ولدينا فرق مصرية فى الموسيقى والأوبرا والبالية لديهم ريبرتوار ثرى أعتقد أن هذا الصرح سوف يجعلهم نواة لنهضة أكبر مع إبداع مصرى عالمى.